لا تطعني شموخ الوداع بتفاهة الإيضاح .
لا تشرحي لماذا كان علينا أن نفترق .
فأنا أدرك أنه ما كان ينبغي لنا أن نلتقي .
إذن ، كانت نزهتنا القصيرة بين النجوم زمردة سرقناها من خزائن الزمن الحديدية بدون حق.
وإذن ، كان جنوننا اللذيذ انفلاتا مؤقتا من سلاسل الحكمة والاتزان .
وإذن ، كان الانفجار المتدفق شعرا وعطرا وكروما وشلالات حرير نزوة عابرة عاد بعدها البركان الصامت القديم إلى وقاره الصامت القديم .
أريد أن أقول .
إن ما كان ، على قصره ، يظل دائماً جزأ من خارطة الزمن ، زمني و زمنك وزمن الأشياء التي أحببناها وأحبتنا.
الأشياء ؟
صخور البحر ، القارب العتيق ، الغروب ، الشجيرات وشريط الموسيقى الذي يجهش
"عندما ترحل عني".
تذكرين ؟!
أما أنا فعندما أعود إلى الكثبان والوديان فسأحمل في صدري ربيعاً صغيراً متنقلاً تختزنه نظرة من نظراتك الكستنائية .
أما العطر .. أما العطر فقد التحم بخلايا الذاكرة واختفى بين الكريات البيضاء والحمراء.
لا تتكلمي !
اذهبي إلى الشاطئ واجلسي على الصخور وتأملي الغروب يلف الشجيرات والقارب العتيق ودعي شريط الموسيقى يحقق كل تنبؤاته الدامعة !
لست أدري ما الذي جاء بك إلى هذا المكان حيث تقطف الورود وتمضغ،
وتدوس الأصابع الغجرية على براءة الفل، وتسحق الأقدام الثقيلة ذكريات الربيع..
ولكنني أعرف أنك الآن وردة مقطوفة .
زهرة فلٍ فقدت براءتها..ذكرى ربيع سحقته الأقدام الثقيلة .
ألمح في عينيك قرونا من الحزن الأسود العميق تشبه الكحل الأسود العميق الذي يحاصر عينيك ليخفي شماتة الغضون .
وألمح في شفتيكِ لوعة لا تستطيع أن تعبر عن نفسها لأنها نسيت منذ سنين كيف بدأت
وعلى يديك آثار من الأظفار التي تتغذى بقطرات الدم الصغيرة .
ومع ذلك فأنت تنظرين إليّ وكأنني أحمل معي بشرى الخلاص .
لا! أيتها الفلة التي فقدت براءتها .
إن بضاعتي كلمات اجترها و تجترني حتى شاحنت من التكرار وأصيبت بالحزن.
وكيف لكلمات كهذه أن تبشر بالخلاص ؟
أما أنتِ فقد أصبحت دون أن تدركي أسيرة هذا المكان وجاريته و قهرمانته.
أدمنتِ الأيدي التي تقطف . والأصابع التي تدوس. والأقدام التي تسحق.
أدمنتِ حتى لم يعد بإمكانك أن تتعاملي مع إنسان لا يقطف ولا يدوس ولا يسحق.
ستبقين هنا. تغنين وتضحكين وترقصين. ويرمي لك المكان فتات الخبز والقليل من الفضة الصدئة.
حتى يكتشف المكان أنه لم يعد فيك ما يصلح للقطف أو المضغ أو السحق .
وعندها تنتقلين من قبضته إلى قبضة الكهولة الجليدية بلا كلمة وداع.
أنت كريم حقاً ..
عندما تعطي ..
ثم تشيح بوجهك ..
حتى لا ترى ..
حياء الذي يتلقى العطية ..
أن أكون أصغر إنسان..
وأملك أحلاماً..
والرغبة في تحقيقها..
أروع من أكون ..
أعظم إنسان..
بدون أحلام ..
بدون رغبات..
عندما كنت أنت ..
كلمة صامتة على شفاه الحياة المرتعشة..
كنت أنا أيضاً هناك..
ثم نطقت الحياة..
وعبرنا السنين..
تنبض بذكريات الأمس..
وبالحنين إلى الغد..
فقد كان الأمس ..
الموت الذي قهرناه..
والغد..
الميلاد الذي تبعناه..
كانت لندن تصحو .. تتثاءب ..
تلبس معطفها الشتوي الداكن ..
تتمشى في "هايد بارك"
وقفت لندن في نافذتي ..
باعتني " التايمز" وخبز الصّبح ولتر حليب ..
أخذتني لندن في "السب وي"
تركتني لندن في " بيكادللي" وسط السّواح
وبين حوانيت الحلوى والتبغ أتأمل قومي
قافلة تتلو قافلة .. تسأل عن "مارك سبنسر"
جاءتني لندن في الليل
طافت بي "سوهو"
خفت من الليل المملوء بتجار النشوة المصبوغ بلون القرمز
عادت بي لندن للفندق تركتني والتلفزيون أتابع أخبار "البي بي سي"
في نصف الليل دقّت "بج بن"
قالت لي لندن "قود نايت"
وفجأة ,, قطع علينا القمر حبل الحديث ..
دخل بغتة بيننا , امتزجت أشعته البيضاء بخصلاتك الشقراء في نافورة نزقة من الضوء التصقت عيناك بوجهه الوسيم وصمتت شفتاك ورحتِ في نصف غيبوبة ..
وبقيت أنا كالشاعر القديم الذي رأى القمرين في وقت معاً
أردد مع الأندلسي :
"سل في الظلام أخاك البدر عن سَهري"
يا أخت البدر !
أعرف ما تقولين للقمر ,, وأفهم ما يقوله لك
تقولين : هذه الدقائق المسحورة ستتلاشى مع آخر خطوة من خطى الليل
ويأتي النهار بملله وعلله والصراع مع لقمة العيش الدامية ..
تقولين : باطل الأباطيل هذا وقبض الريح , هذا الحب الذي ولد مع القمر ويموت مع الشمس =(
فما الجدوى ؟!
ويقول لك القمر : يا أختاه !
أنت الآن في مملكتي الذهبية في أحبولتي المصنوعة من ياسمين
انظري ماذا فعلت , صبغت البحر بألف لون ولون . .
حولت الليل كرنفالاً يميس بألف "ريو"حملت إليك عبق الغابات الاستوائية . .
ورائحة الشبق القادم من الصحراء
لن يأخذ منك هذه الدقائق اللآلئ
هذه الجنة الليلية ,في خليج الحوريات والدولفين
في الجزيرة التي لا يغرب عنها العشق
يا أخت البدر !
عيناك هالات من الدموع وأنا بدوي ولهان يغني مع جده البدوي الولهان
كلانا ناظر قمراً ولكن
رأيتُ بعينها ورأت بعيني
تريدين أن تعرفي كم اشتقت إليكِ ؟! سأحاول أن أصف يومي بدونك
أصحو و أفتح الستائر فتبدو الأشجار في الحديقة متعبة شاحبة تسألني : أينهآ ؟!
أحلق في الحمام وأحدّق في المرآة وتتضاعف الشعرات البيض فجأة وتضحك المرأى بخبث وهي تسألني : أينها ؟!
وأقرأ جريدة الصباح وأعثر على خبر طريف وأبدأ في الحديث معك قبل أن يصفعني الواقع الوقح بسؤال مباغت : أينها ؟!
تمر ساعات اليوم بطيئة , بطيئة كجِمالٍ تحمل جندلاً وحديداً وتسألني كل ثانية منها : أينها؟!
أعود إلى المنزل وأتخيل وأنا في الطريق أن كل العيون في كل الوجوه تحملق فيّ باستغراب وتسألني : أينها ؟!
ويضمني المنزل الخاوي
أفتح كتاباً في التاريخ فلا أفهم شيئاً لأن كل حرف يغادر مكانه ويصرخ فيّ : أينها ؟!
أنصرف إلى المذياع وتنهال الموسيقى طبلاً غجرياً ملحّاً يردد : أينها ؟!
أهرب إلى الرائي فتقفز أمامي الصور والألوان والأصوات في سيمفونية مجنونة مشوّشة تعيد وتعيد : أينهآ ؟!
أفر إلى السرير , أضع المخدة فوق رأسي أطمع أن أراكِ فيما يرى لنائم , ويجيء النوم بعد جهاد مرير
لا أكاد أنام حتى فاجأني حلم غريب غاضب يسألني كأنني متهم أمام القضاء :أينها ؟!
وأفيق , انتظر الصباح المرهق
أيتها الغالية ! هل بدأتٍ تعرفين كم أشتاق إليك ؟!
هاأنذا أصحو من حلمي بكِ , في أول ساعات النوم العذبة
حين تتنفس الرياح برفق , وتلمع النجوم بشدة
الينابيع تمتزج بالنهر و الأنهار بالمحيط
ورياح السماء في امتزاج دائم
في نشوة حلوة
ليس ثمة شيء وحيد في هذا العالم.
هذه سُنّة الخالق
لماذا لا يمتزج روحانا ؟!
عندما يتحطم المصباح , يموت الضوء في الفتيل
وعندما تتبعثر السحابة , تزول روعة قوس قزح
وعندما يتحطم العود , تضيع ذكريات اللحون
وعندما تنطق الشفاه , تتلاشى الكلمات التي نحبهآ
تنام الأرض في أذرع المحيط
ويحلمان معاً
بالأمواج والسحب والغابات والصخور
كل تلك الأشياء التي نراها في ابتسامتيهمآ , ونسميها الحقيقة