عرض مشاركة واحدة
قديم 05-19-09, 09:08 AM   #30
ღ..صاحب السمو..ღ‏
كوفي متألق


الصورة الرمزية ღ..صاحب السمو..ღ‏
ღ..صاحب السمو..ღ‏ غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 846
 تاريخ التسجيل :  May 2009
 المشاركات : 815 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم



* ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة‏ :

هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل‏.‏ أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش‏؟‏ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين‏؟‏ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحــرية الكاملة للناس فـي العــقيدة والــدين ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف‏.‏

أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره‏.‏

أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط‏.‏

أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابــع، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله‏)‏‏.‏ وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً‏؟‏ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله‏:‏ ‏(‏ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً‏)‏‏.‏

والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ‏.‏ وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط‏.‏


* حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم :

هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد‏.‏

الأولي‏:‏ أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به‏؟‏

الثانية‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح‏؟‏

كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح‏.‏ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل‏؟‏ قـال‏:‏ ‏(‏بلى‏)‏‏.‏ قـال‏:‏ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإنك آتيه ومطوف به‏)‏‏.‏

ثم انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد‏:‏ فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق‏.‏

ثم نزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ ‏[‏سورة الفتح‏:‏1‏]‏، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أو فتح هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ فطابت نفسه ورجع‏.‏

ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً، قال عمر‏:‏ فعملت لذلك أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً‏
.‏



* انحلت أزمة المستضعفين‏ :

ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ العهد الذي جعلت لنا‏.‏ فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين‏:‏ والله إني لأري سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال‏:‏ أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ‏.‏ فقال أبو بصير‏:‏ أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد‏.‏

وفر الآخر حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه‏:‏ ‏(‏لقد رأى هذا ذعراً‏)‏، فلما انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قُتِل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال‏:‏ يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويل أمه، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد‏)‏، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي سِيفَ البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة‏.‏ فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم‏.‏ فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة‏.‏


* إسلام أبطال من قريش‏‏ :

وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبـي صلى الله عليه وسلم قـال‏:‏ ‏(‏إن مكـة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها‏)‏‏









*المرحلة الثانية: طور جديد :

إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد كانت قريش أقوي قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوي جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة ـ قريش وغَطَفَان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية، وزعيمتهم في ربوع جزيرة العرب انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نري لغطفان استفزازاً كبيراً بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء اليهود‏.‏

أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر، وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر‏.‏

ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري ؛ ولذلك نري أن نقسم هذه المرحلة إلى قسمين‏:‏

1 ـ النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء‏.‏

2 ـ النشاط العسكري‏.‏

وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول موضوع مكاتبة الملوك والأمراء ؛ إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعاً، بل ذلك هو الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن، والقلاقل والاضطرابات‏.‏

* مكاتبة الملوك والأمراء :

في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام‏.‏

ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له‏:‏ إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه‏:‏ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر‏:‏ محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هــكذا‏.‏

واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام‏.‏ وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه‏.‏

1 ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة‏:‏

وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة‏.‏ وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ‏:‏ ‏(‏وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر‏)‏‏.‏

وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك‏)‏‏.‏

وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً بليغاً، واستعان في ذلك كثيراً باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى‏)‏‏.‏

وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحاً، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم‏.‏

وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب‏.‏ والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحاً، والعلم عند الله‏.‏

ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه‏:‏

‏[‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد‏:‏

فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسي لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين‏)‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفراً ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر‏.‏

وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة الغائب، ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً آخر، ولا يدري هل أسلم أم لا‏؟‏‏.‏

2 ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر‏:‏

وكتــب النبــي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏)‏

واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏.‏ فلما دخل حاطب على المقوقس قال له‏:‏ إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك‏.‏

فقال المقوقس‏:‏ إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه‏.‏

فقال حاطب‏:‏ ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به‏.‏

فقال المقوقس‏:‏ إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه‏.‏ ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر‏.‏

وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد‏:‏

فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك‏)‏‏.‏

ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية ، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم‏.‏ وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري‏.‏



.







يتبع